فصل: مسألة أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية كيف تغلظ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.كتاب الديات الأول:

.مسألة أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية كيف تغلظ:

من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر قال: وسئل مالك عن أهل الذهب والورق إذا وقعت عليهم الدية مثل ما وقع على المذحجي كيف تغلظ عليهم إن غلظت؟ قال: نعم تغلظ عليهم، وإنما يعتبر ذلك بفضل ما بين أسنان المغلظة وأسنان الخطأ على أهل الإبل، ينظر إلى قيمة المغلظة كم قيمة الثلاثين حقة والثلاثين جذعة والأربعين خلفة فيعرف؟ وينظر كم قيمة أسنان دية الخطأ الأخماس، عشرين بنت مخاض وكم قيمة عشرين بنت لبون، وكم قيمة عشرين ابن لبون وكم قيمة عشرين حقة وكم قيمة عشرين جذعة، فيعرف كم قيمة ذلك كله، فينظر كم فضل ما بين القيمتين؟ قيمة الأثلاث دية الخطأ، وقيمة الأخماس دية الخطأ، فإن كان خمسا أو سدسا أو ربعا أو ما كان فيزاد على أهل الذهب والورق بقدر ما زادت قيمة التغليظ في الإبل على دية الخطأ ينظر كم هو من دية الخطأ؟ إن كان ثلثا أو ربعا أو ما كان زيد مثل ذلك، قال مالك: فأرى الجراح مثل ذلك إذا كانت شبيها بذلك أن يزاد فيها للخرمة أو فقاء العين أو قطع الرجل كان عليه خمسة عشر حقة وخمسة عشر جذعة وعشرون خلفة، فإن فعل ذلك أحد من أهل الذهب أو الورق نظر أيضا إلى فضل هذه الأسنان التي سميتها وإلى نصف قيمة دية الخطأ من الإبل فتغلظ عليه بقدر ذلك إذا صار ذلك ثلثا على أهل الإبل أو ربعا أو ما كان في القيمة، وصنع بأهل الذهب والورق مثل ذلك في الجراح والنفس، قال ابن القاسم: ليس يكون ذلك في الجراح إلا في الأب، قال سحنون: إلا الجائفة والمأمومة والمنقلة، فإن الأجنبي لا يقاد منه فكذلك الأم والأب والجد لا تغلظ عليهم الدية فيها.
قال محمد بن رشد: الديات على مذهب مالك وأصحابه ثلاث: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المذحجي بابنه، وهي دية شبه العمد على مذهب من يراه ويقول به، وهو قول أكثر أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك.
فأما دية الخطأ فإنها على أهل الإبل مائة من الإبل على عاقلة القاتل سنة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في ذلك، وتؤخذ في ثلاث سنين وقيل في أربع بخمسة عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون ذكرا وعشرون حقة وعشرون جذعة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وقد ذهب جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب إلى أن دية الخطأ مربعة واختلفوا في أسنانها اختلافا كبيرا.
وأما دية العمد فليست بموقتة ولا بمعلومة بدليل قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وشيء نكرة تقع على القليل والكثير، فإن اصطلحوا على الدية مبهمة فإنها تكون حالة في مال القاتل مائة من الإبل على أهل الإبل مربعة: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة وخمس عشرون جذعة، وفي كتاب ابن المواز أنهم إن اصطلحوا على دية مبهمة أو عفا بعض الأولياء فرجع الأمر إلى الدية فالدية في ذلك مثل دية الخطأ إلا أن العاقلة لا تحمل منها شيئا وهي في مال الجاني منجمة في ثلاث سنين، قال: وإنما تفترق دية الخطأ من دية العمد في أن العاقلة لا تحملها، وأما في الأسنان فلا، والأول هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه، وذهب الشافعي إلى أن دية العمد إذا قبلت كدية شبه العمد مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة.
وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المذحجي بابنه وفي شبه العمد على مذهب من يراه من أهل العلم وهو قول مالك في رواية العراقيين فإنها على أهل الإبل مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، قيل حالة في مال القاتل غير مؤجلة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، وقد كان ابن القاسم يقول: إنها على العاقلة كهيئة دية الخطأ حكى ذلك عنه ابن حبيب، وقيل: إنها على العاقلة حالة تنجيمها وهو قول ابن الماجشون، قال: ومن تغليظها أن يطرح تنجيمها ويدل على ذلك قول عمر بن الخطاب سراقة بن جعشم المذحجي وهو غير القاتل إلا أنه رأس قومه: اعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة من الإبل، وإلى هذا ذهب أشهب وسحنون، وقيل: إنها في ماله إن كان له مال وعلى العاقلة إن لم يكن له مال، وهو قول مطرف وإياه اختار ابن حبيب.
وأما الدية على أهل الذهب والورق فهي في الخطأ على ما قومها به عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ألف دينار على أهل الذهب واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه.
واختلف هل تغلظ على أهل الذهب والورق دية العمد المربعة إذا قبلت بفضل ما بين أسنانها وأسنان دية الخطأ أم لا؟ وهل تغلظ أيضا عليهما الدية المثلثة في مثل ما صنع المذحجي بابنه بفضل ما بين أسنانها وأسنان دية الخطأ أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها- أنها لا تغلظ واحدة منهما، حكى هذا القول عبد الوهاب في المعونة.
والثاني- أنها تغلظ كل واحدة منهما، وهو الذي يأتي على ما في رسم الصبرة من سماع يحيى عن أشهب، لأنه إذا رأى التغليظ في الدية المربعة فأحرى أن يراه في الدية المثلثة.
والثالث- أنه لا يغلظ الدية المربعة وتغلظ الدية المثلثة، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقول ابن نافع في رسم الصبرة المذكور من سماع يحيى وهو أولى الأقوال إذ قد قيل في دية العمد إذا قبلت إنها مخمسة مؤجلة على ما في كتاب محمد.
واختلف في صفة التغليظ على ثلاثة أقوال:
أحدها- أنه ينظر إلى قيمة أسنان الدية المخمسة وإلى قيمة أسنان الدية المربعة أو المثلثة في ذلك البلد إن كان البلد بلد إبل، وإن لم يكن بلد إبل ففي أقرب بلدان الإبل إليهم قاله أصبغ في الواضحة، فما كان بين القيمتين سمي من قيمة أسنان الدية المخمسة فما كان من خمس أو ربع أو ثلث أو أقل أو أكثر أخذ ذلك الجزء من الألف المثقال أو الاثني عشر ألف درهم فزيد عليه، وهو قوله في هذه الرواية والمشهور في المذهب.
والثاني- أنه يزاد على الألف مثقال أو الاثني عشر ألف درهم ما كان بين القيمتين من العدد من غير تسمية، وهذا القول في المعنى أظهر، والأول أشهر.
والثالث أن يقوم أسنان الدية المثلثة أو أسنان الدية المربعة فتكون تلك الدية ما كانت إلا أن ينقص من الألف دينار أو اثني عشر ألف درهم فلا ينقص من ذلك شيء، وهذا القول حكاه عبد الوهاب وهو ينحو إلى مذهب الشافعي في أن الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل على أسنانها وقت الحكم في كل زمن نقصت من الألف دينار أو زادت عليه، قال: لأن عمر قوم الدية ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم فالحكم أن يقوم في كل زمن.
ولا حجة له فيما روي عن عمر بن الخطاب في ذلك، إذ قد روي أنه قوم الدية، وأنه جعل الدية، وأنه قضى في الدية، وحكم للجراح في التغليظ في الديتين جميعا المربعة والمثلثة حكم الدية الكاملة يؤخذ ذلك من الاختلاف في التغليظ وفي صفته ما ذكرناه في الدية وفي صفته ما ذكرناه في الدية الكاملة إلا الجائفة والمنقلة والمأمومة وما أشبهها من الجراح التي هي متألف فلا يقتص منها في الأجنبي فيستوي في حكم تغليظها الأب والأجنبي، فلا يغلظ على الأب إلا على القول بوجوب تغليظ دية العمد المربعة وجراحات العمد، فقول سحنون إلا الجائفة والمنقلة والمأمومة فإن الأجنبي لا يقاد منه. فكذلك الأب والأم والجد لا تغلظ عليهم فيها الدية هو على ما اختاره وأخذ به من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أنه لا تغليظ على أهل الذهب والورق في دية العمد وجراحاته، والتغليظ عند ابن القاسم وأشهب وأصحابهما فيما صغر من الجراح أو كبر، وقد ذكر عن ابن القاسم أنه قال: إنما ذلك فيما يبلغ ثلث الدية فأكثر، وقول ابن القاسم ليس يكون ذلك في الجراح إلا في الأب يريد والأم، إذ لا يفرق أحد بين الأب والأم في هذا، فعلى ظاهر قوله هذا لا تغلظ الدية في جد ولا جدة خلاف قوله في المدونة إنما تغلظ في الجد يريد والجدة من قبل الأم ومن قبل الأب- والله أعلم- فلا يغلظ على مذهبه في المدونة في الجد للأم ولا في الجدة أم أب الأم والأم أب الأب، وهو قول أشهب، وذهب ابن الماجشون إلى أن الدية تغلظ في الأجداد والجدات كلهم من قبل الأب ومن قبل الأم وهو قول سحنون في نوازله من كتاب الأقضية إن الدية تكون له في ولده وولد ولده، والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول ابن الماجشون، وروى عنه أنه توقف في الجد للأم.
والتغليظ تابع للقصاص فمن تغلظ الدية فيهم كلهم فلا يقتص من واحد منهم ألا أن يعمد لقتله مثل أن يضطجعه فيذبحه أو يأخذ سكينا فيقطع يده أو يفقأ عينه، ومن يرى أن لا تغلظ الدية على الجد للأم أو الجدة أم أب الأب أو أم أب الأم فهو يرى القصاص منهم في العمد الذي يشبه العمد وإن لم يعمد للقتل، إذ لا اختلاف في أنه لا يقتص من واحد منهم فيما هو من شبه العمد مثل أن يضربه بعصا فيموت من ذلك، أو بسوط فيفقأ عينه وما أشبه ذلك.
فالديات عند مالك ثلاث مخمسة ومربعة ومثلثة، وعلى ما في كتاب ابن المواز اثنتان مخمسة في الخطأ وفي العمد إذا قبلت الدية مبهمة، ومثلثة في مثل ما فعل المذحجي، وعند الشافعي اثنان مخمسة في دية الخطأ ومثلثة في العمد إذا قبلت وفي شبه العمد، وعند أبي حنيفة اثنتان مخمسة في دية الخطأ ومربعة في شبه العمد وفي العمد إذا قبلت الدية فيه مبهمة، وهذا كله لا مدخل للرأي والقياس في شيء منه، وكل يدعي التوقيف فيما ذهب إليه من ذلك.
ولا يؤخذ في الدية عند مالك وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم. وقد روى عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت؟ على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الإبل مائتي حلة، وهو قول عطاء وقتادة وروى ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب، وبالله التوفيق.

.مسألة الأب إذا قتل ابنه خطأ مع رجلين معه هل ترى له من الدية شيئا:

وسئل مالك عن الأب إذا قتل ابنه خطأ مع رجلين معه هل ترى له من الدية شيئا؟ وكيف إن كان الابن لم يهلك ساعة أصابوه عاش شيئا من النهار ثم هلك وقامت البينة على ذلك وترك ابنه من الورثة أمه وأختيه وعصبته إن لم يرث الأب.
قال مالك: أرى أن يحلف ورثته خمسين يمينا لمات من ذلك ثم تكون الدية عليهم على عاقلة الأب الثلث وعلى عاقلتي الرجلين ثلثا الثلث على عاقلة كل واحد منهما ثلث الدية، وأرى للأم السدس من الدية كلها وأرى للعصبة والأختين ما على عاقلة الأب بعد سدس الأم وبعد أن يحلفوا، وأرى من الدية للأب ثلثي الدية التي وقعت على عاقلتي الرجلين اللذين شركاه في القتل بعد سدس الأم، وبعد أن يحلف الأب لمات من ذلك، فإن الله تعالى يقول: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فأبوه من أهله، وأرى إذا لم يأت أهل الميراث جملة أهل الثلث وأهل الثلثين يحلف أهل الثلث الأختان والعصبة خمسين يمينا وأخذوا، ثم جاء الأب بعد ذلك فأرى أيضا أن يحلف خمسين يمينا فيكون سهمان الدية ستة وثلاثون سهما، للأم من ذلك سدس الثلثين اللذين يصيران للأب وهو أربعة أسهم وسدس الثلث أيضا الذي يصير للأختين والعصبة، وهما سهمان فذلك ستة أسهم من ستة وثلاثين للأختين ثلثا الثلث وهو ثمانية وللعصبة ما بقي وهما سهمان وللأب عشرون سهما وهو ما بقي من الثلثين بعد سدس الأم.
ورأيت أن لا يجمع على الأب أمران: مصيبة ابنه، وحرمان عقل ابنه يكون على عاقلة قومه يخرجونها إلى أهله قال الله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فأبوه وورثته من أهله، ولأن ذلك من الخطأ الذي لا شك فيه.
ولو ولي الأب قتله وحده لم يكن له من ديته شيء، قال ولو أنهم قتلوه عمدا قتلتهم به بثلاثتهم الأب والرجلين إذا عمد الأب للقتل متعمدا لذلك قتل به، وأما إذا كان من الضرب والرمية وأشباه ذلك فإنه لا يقاد منه، وإذا كان مثل ذلك من الناس يرمي الرجلُ الرجل بحجر أو بعصا أو يضربه بذلك فيموت من ذلك فعليه القود ليس حال الأب في هذا كحال غيره.
وتكون الأيمان عليهم على قدر مواريثهم، فمن كان عليه كسر جبرها، قال مالك: وإن علم أنه هلك منه حين وقعت عليه الخشبة لم يتكلم في غمرته حتى هلك لم يكن في ذلك قسامة، قال ابن القاسم: ويحلف الأب على الرجلين لمات ابنه مما صنعا به، ويحلف العصبة والأختان لمات مما فعل الأب، وتحلف الأم أنه مات من فعلهم كلهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة صحيحة جارية على الأصول إلا أن في سياقتها إشكالا يفتقر إلى بسط وبيان، وهو أن دية الخطأ موروثة عن المقتول يرثها ورثته وبستحقونها على عاقلة القاتل بقسامتهم على قدر مواريثهم مع شاهد على القتل أو شاهدين على الجرح إذا حيي بعد ذلك حياة بينة، فإن كان القاتل من الورثة لم يرث منها ولا أقسم فيها، لأن القاتل الخطأ لا ميراث له من لدية، فإذا قتل الرجل ابنه خطأ مع رجلين سواه فلا ميراث له في ثلث ديته الواجبة على عاقلته بما شاركه في قتله، وله ميراثه في ثلثي الدية الواجبة على عاقلتي الرجلين المشاركين له في قتله، فثلث الدية الواجبة على عاقلة الأب ميراث لأمه ولأخته ولعصبته، لأمه السدس، ولأخته الثلث، ولعصبته النصف بعد أن يقسموا خمسين يمينا لمات من الجرح الذي أصابه به الأب تكون على العصبة منها خمسة وعشرون يمينا لأن لهم نصف الميراث، وعلى الأم ثمانية أيمان، وعلى الأختين ستة عشر يمينا ويجبر اليمين الباقية على أكثرهم حظا منها أو من الأيمان فإن جاءت الأختان والعصبة دون الأم لم يكن لهم أن يأخذوا حظهم من الدية إلا أن يحلفوا خمسين يمينا على ما قاله في الرواية من أن الأختين والعصبة يحلفون خمسين يمينا وثلثا الدية للذان على عاقلتي الرجلين ميراث لأبيه وأمه لأمه السدس ولأبيه الباقي بعد أن يقسما خمسين يمينا لمات من الجرح الذي أصابه به الرجلان، تكون على الأم منها سدس الأيمان، وعلى الأب الباقي منها، فتحلف الأم ثمانية أيمان ويحلف الأب إحدى وأربعين يمينا، وتجبر عليه اليمين الباقية من الخمسين فسواء جاؤوا مجتمعين أو متفرقين لابد أن تحلف الأم مع الأب خمسين يمينا لمات مما أصابه به الرجلان، وتحلف الأم مع الأختين والعصبة خمسين يمينا لمات مما أصابه به الأب.
وما في ظاهر أول المسألة من التفرقة بين أن يجيء أهل الثلث وأهل الثلثين جميعا أو مفترقين يقضي عليه ما في آخر المسألة.
وقول ابن القاسم: إن الأب يحلف على خلاف ما يحلف عليه العصبة والأختان وقوله وتحلف الأم أنه مات من فعلهم كلهم معناه أنها تحلف مع العصبة والأختين سدس الخمسين يمينا كما يحلفون، وتحلف مع الأب سدس الخمسين يمينا أيضا كما يحلف، لأنها تحلف سدس الأيمان مرة واحدة أنه مات من فعلهم كلهم.
وقوله من كان عليه كسر جبرها الظاهر منه أن اليمين المنكسرة تجبر على من كان حظه منها أكثر وهو الذي في الديات من المدونة، وفي الموطأ رواية يحيى أنها تجبر على من كان عليه أكثر الأيمان، وفي رواية ابن القاسم وابن بكير مثل ما في المدونة، فإن استوى الورثة في الميراث فانكسرت عليهم يمين أو أيمان مثل أن يكونوا ثلاثين من الإخوة؛ فيجب على كل واحد منهم من الأيمان يمين وثلثا يمين، فقيل إنه يجبر اليمين المنكسرة على كل واحد منهم فيحلفون يمينين يمنين، وهو قول ابن القاسم، وقيل يحلفون يمينا يمينا ويقال لهم: لابد من أن تأتوا بعشرين رجلا منكم يحلفون يمينا يمينًا، وهو قول أشهب فإن تشاحوا على قوله فيمن يحلف منهم، فقيل: إنه يقرع بينهم وقيل: إنه يقال لهم لا تعطون شيئا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان، وهو قول ابن كنانة، وإن كان عدد العصبة أكثر من خمسين حلفوا كلهم يمينا يمينا على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يقال لهم: لابد من أن تأتوا بخمسين منكم يحلفون يمينا يمينا فإن تشاحوا في ذلك فعلى ما تقدم من الإسهام بينهم فيمن يحلف منهم، أو من أن يقال لهم لا تعطون شيئا حتى تأتوا منكم بخمسين يحلف كل واحد منهم يمينا يمينا، ولو كان الأخوة ثلاثة لحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا على مذهب ابن القاسم، وعلى مذهب أشهب يحلف كل واحد منهم ستة عشر يمينا، ويقال لهم: لابد من أن تأتوا برجلين منكم يحلفان يمينا يمينا، فإن كان الورثة زوجات وبنات وأخوات وما أشبه ذلك من أهل السهام فلا يختلف ابن القاسم وأشهب في قسم الأيمان بين الزوجات والبنات والأخوات على سهام الميراث، وإنما يختلفان فيما حصل على كل فريق منهن من الأيمان إذا قسمت عليهن على ما تقدم من الاختلاف في قسمة الأيمان بين الإخوة وبالله التوفيق.

.مسألة عبيد وأحرار وقعت عليهم الدية خطأ:

وسئل مالك عن عبيد وأحرار وقعت عليهم الدية خطأ فكان ما على العبيد من ذلك الثلثين وكان على الأحرار الثلث أو أدنى كيف الأمر في ذلك؟.
فقال: يقال لأرباب العبيد افتدروا عبيدكم بما يقع عليهم من الدية في ثلاث سنين أو أسلموهم فأي ذلك شاءوا فعلوا، قال سحنون: ويكون الثلث الذي وقع على الأحرار على عواقلهم في ثلاث سنين، وإن كان الذي وقع عليهم أقل من ثلث الدية فهو على العاقلة في ثلاث سنين، قال ابن القاسم: وإذا كانوا ثلاثة أو أكثر فوقع عليهم ثلاثتهم ثلث الدية فيصير على كل إنسان ثلث الثلث من الدية وهو تسع الدية، فذلك تحمله العاقلة، قال: ولم يكن الأحرار إلا واحدا فوقع عليهم أكثر من الثلث أو أقل فهو على العاقلة في ثلاث سنين، وكان على العبيد ما بقي منها، يقال لأربابهم افتدوهم بما يقع عليهم من الدية في ثلاث سنين أو أسلموهم أي ذلك شاءوا فعلوا.
ويقسم ما يقع على العبيد على عددهم ولا يكون ذلك على قيمتهم فمن شاء من أرباب العبيد أن يفدي عبده بما يقع عليه من الدية وإن كانت قيمته أكثر مما وقع عليه فذلك له، ومن شاء منهم أن يسلمه بما وقع عليه وإن كانت قيمته أقل مما يقع عليه فذلك له.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية إن ما وقع على الأحرار من ثلث الدية فأكثر يكون على عواقلهم وإن كان أقل من الثلث هو خلاف روايته عن مالك مثل رواية أشهب عنه، حكى اختلاف قوله في ذلك ابن المواز، قال إن وقع على الأحرار أقل من ثلث الدية فذلك في أموالهم، قاله مالك مرة وروى عنه أن ذلك على العاقلة في ثلاث سنين، وبه قال سحنون، قال يحيى بن عمر: والأول رواية ابن القاسم والقولة الأخيرة رواها أشهب.
ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه القول بأن ذلك على العاقلة القياس على ما أجمعوا عليه من أن الدية إذا وجبت على جماعة من الأحرار أنها على عواقلهم، وإن كان الذي يجب على كل واحد منهم أقل من ثلثها، ووجه القول بأن ذلك في أموالهم هو أن الأصل كان أن لا يحمل أحد جناية أحد لقوله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
وقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ لأبي رمثة في ابنه: «لا تجني عليه ولا يجني عليك» فوجب أن لا يخصص من هذا العموم إلا ما خصصته السنة والإجماع، وهو الثلث من الدية فأكثر إذا وقع على الواحد من الأحرار أو الجماعة منهم لأنهم في معنى الواحد لاستوائهم فيما يجب عليهم في ذلك.
وقوله ما وقع على العبيد منها يكون أربابهم بالخيار بين أن يفتدوهم بذلك في ثلاث سنين أو يسلموهم به هو خلاف روايته عن مالك في المدونة في الحر والعبد يصطدمان فيموتان جميعا إن ثمن العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد، فإن كان في ثمن العبد فضل عن دية الحر كان في مال الحر وإلا لم يكن لسيد العبد شيء، والذي يأتي في الحر والعبد يصطدمان على قول ابن القاسم في هذه الرواية ما قاله أصبغ في أول نوازله بعد هذا من هذا الكتاب أنه يكون في مال الحر قيمة العبد تدفع إلى سيده ثم يقال لسيد العبد افتك قيمته بدية الحر أو أَسْلِمْها، فإن أسلمها لم يكن لولاة الحر غيرها، وإن افتداها افتداها بجميع الدية، معناه في ثلاث سنين، إذ لو لم تكن مؤجلة لوجب أن يكون مقاصة بالقيمة كما قال في المدونة، والأظهر أن يكون مؤجلة على ما قاله في هذه الرواية، لأن ثمن المقتول خطأ دية مؤجلة فوجب أن لا يلزم السيد أكثر مما جنى عبده.

.مسألة تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف:

ومن كتاب القبلة:
وقال مالك في الذين تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف.
قال: كل من عرضت عليه اليمين: فأباها فقد أبطل حقه بتركه اليمين إلا أن يكون له في تركها عذر بين، قال سحنون: يريد بالعذر مثل أن يزعموا أن الميت عليه دين أو يكون أوصى بوصايا.
قال محمد بن رشد: لما سئل مالك عن الذين تعرض عليهم الأيمان في القسامة فينكلون ثم يطلبون بعد ويقولون نحن نحلف أجاب عن ذلك بجواب عام في الحقوق والدماء أن كل من عرضت عليه اليمين فأباها فقد أبطل حقه بترك اليمين إلا أن يكون له في تركها عذر بين ففسر سحنون العذر الذي يكون له في الحقوق فقال: يريد بالعذر مثل أن يزعموا أن الميت عليه دين أو يكون أوصى بوصايا، وقول سحنون بين لأنه إذا أبى أن يحلف مع شاهده على حق يدعيه على الميت من أجل أنه قيل له إنه أوصى لغيره بوصايا ثم علم أنه ليس على الميت دين ولا أوصى به بوصايا فمن حقه أن يرجع إلى اليمين، لأنه يقول: إنما نكلت عنها من أجل محاصة الغرماء لي في الدين أو من أجل محاصة أصحاب الوصايا لي في الوصية، وأما العذر الذي يكون لهم في نكولهم عن القسامة فعلى غير هذا لأن الدم إذا كان خطأ فإنما يستوجب الورثة بقسامتهم الدية على العاقلة، وإن كان عمدا فإنما يستوجب الأولياء بقسامتهم الاستقادة من المقتول.
وقوله: إن لهم أن يرجعوا إلى القسامة إن كان لهم عذر يتبين به أن نكولهم عن القسامة لم يكن على وجه العفو في العمد ولا على ترك حقهم من الدية الخطأ؛ ينبغي أن يحمل على التفسير لما في كتاب الديات من المدونة.
ولابن نافع في المدنية ما ظاهره أن من نكل عن اليمين فله أن يرجع إليها ما لم يرد اليمين على المطلوب، ويلزم في القسامة مثل هذا على ظاهر قوله، ولا اختلاف إذا نكل عن اليمين مع شاهده، وردها على المطلوب أو نكل المطلوب عن اليمين إذا لم يكن للطالب شاهد فردها على الطالب أن ليس لواحد منهما أن يرجع إلى اليمين، ومثل هذا يقال في المقاسمة إنهم إذا نكلوا عنها فردوا الأيمان فيها لم يكن لهم أن يرجعوا إليها باتفاق، وسيأتي في أول رسم من سماع عيسى تحصيل الاختلاف على من ترجع الأيمان في القسامة إذا ردت في العمد والخطأ، وفي أي موضع ترجع باتفاق وعلى اختلاف إن شاء الله تعالى.
ولو نكلوا في القسامة عن الأيمان فردوها على المدعى عليهم فحلفوا فوجد الطالبون بينة تشهد لهم على القتل لجرى ذلك على الاختلاف في الذي ينكل عن اليمين مع شاهده فيرد اليمين على المطلوب فيحلف ثم يجد شاهدا آخر أو شهودا على حقه، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى من كتاب الشهادات.

.مسألة مات المحبوس في دم العمد:

قال مالك: من حبس في قتل خطأ أو عمد ثم مات قبل أن يقسم عليه إنه يبطل العمد ولا يقام عليه ولا يبطل الخطأ يقسمون ويأخذون الدية، وقد قيل لا يحبس أحد بقتل الخطأ.
قال محمد بن رشد: قوله إذا مات المحبوس في دم العمد إنه يبطل ولا يقام عليه يريد أنه لا يقام عليه حكمه من أخذ الدية من ماله بعد القسامة عليه، وأما القصاص فيستحيل أن يقام عليه بعد موته فلا معنى لقوله إنه لا يقام عليه إلا ما ذكرته، وهذا عندي على القول بأنه ليس لولي المقتول أن يأخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وأما على القول بأن من حقه أن يأخذ الدية منه شاء أو أبى وهو قول أشهب وأحد قولي مالك على ما ثبت من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودي، وإما أن يقاد» فلا يبطل الدم بموته قبل القسامة ويكون من حق الأولياء أن يقسموا بعد موته فيستحقون الدية في ماله.
وأما الدم الخطأ فلا إشكال ولا اختلاف في أنه لا يبطل بموت القاتل قبل القسامة عليه، إذ الحق في ذلك إنما هو على عاقلته، وهو كرجل منهم فيما يلزمهم فيؤخذ من ماله بعد موته ما يلزمه من ذلك.
وأما قوله: وقد قيل إنه لا يحبس أحد في قتل الخطأ فليس ذلك باختلاف من القول، ومعناه أنه لا يحبس فيه إذا كان مشهور العين فلم يحتج إلى الشهادة على عينه، وأما إذا لم يكن مشهور العين فإنه يحبس حتى يشهد على عينه قال ذلك سحنون، وقوله صحيح ولا يبريه من الحبس هاهنا إلا حميل بوجهه ملي بالدية إن لم يحضره وبالله التوفيق.

.مسألة غر الرجل الهابط في البئر بإمساكه أحد الحبلين اللذين تأمر بهما في البئر:

ومن كتاب أوله باع سلعة سماها:
وسئل عن رجل ربط رجلا بحبل ودلاه في بئر وربط حبلا آخر في خشبة فتدلى الرجل في البئر لموضع حمام يطلبه فانقطع الحبل الذي في الخشبة فخر هابطا فخشي الرجل أن يذهب به معه في البئر فخلى سبيل الحبل أترى عليه الدية؟
قال: نعم ولا أراه يشبه السفينة وسئل عن ثلاثة مراكب أصابتهم الريح فأتى أحدهم فربط مركبه بصخرة ثم أتى الآخر فربط بتلك الصخر، ثم أتى الآخر بعده فوضع قلعة قبل أن يبلغهما ثم نزل رجلان منهما بحبلين إلى المركبين فسأل أحدهما أن يربط له مركبه بحبله وأبى وقالوا: إنا نخاف الغرق، ثم سأل الآخر فأبى، ثم كلموهم، فقال صاحب المركب: اللهم إني إنما أربطه لك فجره المركب الذي كان في الغرق حتى كادوا أن يغرقوا فلما رأوا ذلك سرحوا المركب فذهب وغرق كل من كان فيه، أترى على الذين سرحوه شيئا.
قال: ما أرى ذلك، قد أرادوا خيرا حتى خافوا الهلاك فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي ربط الرجل في حبل ودلاه في بئر فلما انقطع الحبل الآخر الذي ربطه في الخشبة فخشي أن يذهب معه فخلى سبيل الحبل فمات؛ إن عليه الدية ولا يشبه السفينة يريد بالسفينة المسألة التي ذكر بعدها، والفرق بينهما بين لأن هذا غر الرجل الهابط في البئر بإمساكه أحد الحبلين اللذين تأمر بهما في البئر، فوجب عليه الضمان بتسريحه الحبل بما زعم من أنه خافه على نفسه والدية في هذا عليه في ماله ليس على العاقلة، لأن فيه شبهة من العمد، وأما صاحب المركب الذي ربط بمركبه المركب الذي كان في الغرق فلم يغره بما فعل، وإنما فعل ما فعل لله تعالى رجاء أن ينجيه من الغرق فلما خشي أن يذهب مركبه سرحه فلم يكن عليه شيء إذ لو لم يربطه بمركبه ابتداء لغرق كما غرق، فلم يضره ربطه بمركبه وبالله التوفيق.